اللّيبيخافمنالغولبيطلعله؟
21/02/2022
تمارا ناصر*قراءة نفسيّة في "رسالة من غول"
تأليف ورسومات: نِك بلاند | ترجمة: منى أبو بكر | النّاشر: الحكيم
تخيّل نفسك طفلًا يتلقّّى رسالةً من غول، يعلن فيها قدومه لزيارتك. غول في بيتك! سيأتي ليلعب معك! غول! لكن سرعان ما يحاور الطّفل في قصّتنا نفسه مُطمئنًا إيّاها، أن ليس هناك ما يدعو للخوف أو القلق، فالغيلان المتوحّشة المخيفة لا تكتب الرّسائل، وما يقطر من مخالبها ليس حبرًا. ولو كان الغول صاحب الرّسالة يقصد فعلا إخافة الولد -أو ارتكاب ما هو أسوأ من ذلك- لكان قد فعلها في عتمة اللّيل ودون سابق إنذار. بعد تردّد وارتبك يقرّر الولد استضافة الغول، وسرعان ما تتحوّل هذه المشاعر إلى حماسة تدفع الولد للرّد على رسالة الغول مترقّبًا إيّاه.
في قصّتنا "رسالة من غول" يتنقّل السّرد بخفّة ورشاقة، مراوحًا بين لسان الولد ولسان الغول. يدرك الغول وقوع الخطأ لحظة استلام الرّسالة من الولد بدل أن تصله من ابن عمه، الغول فريد، الذي يعيش تحت سرير الولد. ويتبيّن أنّ الغول كان يقصد إيصال الرّسالة لابن عمه، فماذا يفعل الآن؟ الولد بانتظاره وغولنا محرج. نكتشف، نحن القرّاء، أنّ الغول صاحب واجب، ويشعر بوجوب تلبية الدعوة.
والآن يتجهّز كلّ منهما للقاء الآخر. ليس الولد وحده قلقًا. غولنا قلق أيضًا، وأكثر ما يخيفه هو أن يُطرد من البيت. يخشى نفور الولد منه فيرفضه. في أعماق أعماقه، غولنا مثلنا، كل ما يريده هو ان يُقابَل بحبٍ وودّ وألّا يطالبه أحد بتغيير"غوليّته". ومع ذلك غولنا صاحب حساسيّة انسانيّة، يذكّر نفسه بالأشياء التي يجب ألّا يفعلها، والتي من شأنها إخافة الولد. التّشديد هنا على ما يجب ألّا يفعل وليس على ما يجب ألّا يكون. وبدوره، يتساءل الولد كيف بإمكانه منح الغول إحساسًا مألوفا ويُشعره "في البيت"، فينطلق هو ويشطح متخيّلًا، يفترض افتراضات مختلفة حول الغول، حول تفضيلاته، عاداته وأهوائه، إلى أن يحلّ اليوم المُنتظر.
يكمن جمال هذه القصّة، علاوة على كونها مسليّة وفكاهية، في وُسعها وعمقها وطبقاتها المتعدّدة. تتسلّى القصّة بمفهومنا حول الخيال والواقع، وهذه اللعبة جذّابة للأطفال لأنها تحاكي تساؤلات مفصليّة وجوهريّة في نشأتهم وتكوين وجدانهم. تقوم بين النصّ والرّسومات علاقة ديالكتيكيّة تبادليّة، بحيث يثريان بعضهما البعض، مولّدَيْن حقلًا دلاليًّا واسعًا، منه سأقترح قراءة مردّها التنظير النفسي التحليلي.
تحمل عبارة الغول في أدب وثقافة الأطفال مفارقة شديدة. فمن جهة ليس هناك ما هو "شعبيّ" أكثر من الغول، وفي ذات الوقت، لا وجود لكائن "مكروه" وعديم الشّعبيّة أكثر منه. للغول سحرٌ وأثرٌ عميقٌ في نفوس الأطفال، وفي كثير من الأحيان نشهد فضولًا يشدّهم إليه، أمّا عند الكبار فقد نشهد جفولًا منه. ما هي طبيعة هذه القبضة السّحريّة التي يملكها الغول على الأطفال؟ سؤال تعاطى معه كثير من الباحثين والعاملين في ثقافة أدب الأطفال وأيضًا في حقول مجاورة.
من هو الغول؟ وما هو الغول؟
في القصّة التي بين يدينا يمكننا التّعاطي مع الغول بعدّة مناحي-
1- المنحى المادّي باعتباره مخلوقًا، أو شخصيّة "قصصيّة" يذكرها الأطفال كلّما أرادوا تخويف أحدهم الآخر، وهو الغول نفسه الذي يستدعيه الكبار من الوعر ليأتي ويفزع الصّغار.
2- المنحى التّرميزي باعتبار الغول مجازا أو شعورًا، فهو الآخر والمختلف، والّذي باختلافه قد يشعرنا بالتهديد والخوف، بحيث يمكننا تسمية قراءة كهذه بالسياسيّة الاجتماعيّة. وهكذا نرى الولد في القصّة يقترب من موضوع خوفه، فيواجهه حتّى ينجح في نهاية المطاف في التّغلّب على خوفه وتجاوزه.
سأقترح، من خلال معاينة للرّسومات، قراءة مستترة وجليّة في آنٍ. قراءة تفترض أنّ الغول الذي يواجهه الولد، ليس فقط الآخر الغريب والمختلف، البعيد والخارج عن الذّات، بل هو الغول القريب المألوف والكامن في الذات، وكلّ ذلك يتمحور حول علاقة الولد بأخته.
هناك علاقات تؤثّر عميقًا في نفوسنا، بل تفعل أكثر من ذلك، فهي تصمّمنا وتهندسنا. كرّست الدراسات وأدبيّات علم النّفس، وتحديدًا الغربيّة منها، تفكيرًا وتحليلًا كبيرين بشأن العلاقات العاموديّة، أي تلك التي تجمع الأهل بأولادهم وبناتهم. ومن ناحية أخرى أهملت بقدر كبير التّفكير بطبيعة ومنحى العلاقات الأفقيّة، أي تلك التي تكون بين الأشقّاء مثلا. لكننّا نعرف اليوم أهمية هذه العلاقات في تكوين وجدان الفرد، علاقات من شأنها أن تحمل الحُبّ والعطاء والمساندة، كما لها أن تحمل مشاعر مُعتمة أيضا كالغيرة، والحقد والتّنافس. هذه المشاعر المتنافرة هي شرعيّة وطبيعيّة، كما أنّ علاقة التوتّر القائمة بين الحالات الشعوريّة المتنافرة تبحث عن ذات ملتئمة متّحدة قادرة على احتوائها. تتشظّى الذات وتتكسّر إلى حالات فيها ثنائيّات عندما تنعدم القدرة على احتواء الحالات الشعوريّة المتنافرة والمتوتّرة. في القصّة، نتتبّع اجتماع الحالات الشعورية المتنافرة في ذات واحدة ترقد فيها.
إذا أردنا الاعتماد على النّصّ لفهم طبيعة علاقة الولد بأخته، سنصطدم بفقرة واحدة يتيمة، تظهر في صفحة (21):
"سأضع أنسجة العناكب في أرجاء البيت، وسأضع أشياء خضراء على وجنتي. ولأكون مطمئنا، سأحضر معي أختي، إذا كان بحاجة أن يلحق طفلا آخر، غيري".
بكلمات أخرى- في حال احتاج الغول أن ينقضّ على طفل، فسيفرّط الولد بأخته. هذه المرة الوحيدة التي تسجّل فيها الأخت ظهورًا في النّصّ، مقابل ظهور يساوي ظهور الأخ في الرّسومات. هذا من شأنه أن يدلّ على أهمية ومركزيّة العلاقة مع الأخت، وذلك على الرغم من تنكّر الولد لها في النّصّ والرّسومات. تثير الأخت في الولد مشاعر وأحاسيس ترادف مجازيّة الغول، أي أنّها توقظ فيه بُغضًا وعدوانيّة، وينتج عن ذلك خوفًا من عدوانيّته بحيث يتم تصريف هذه العدوانيّة خارجًا على شاكلة غول، أو ما يسمّى بالإسقاط النّفسي.
أنظروا إلى عيون الطّفلة في الرّسمة الأولى. أنظروا كيف تجثم وراء كرسيّ الولد، وكيف تجثم خلف باب غرفة الولد في رسمة اخرى. توحي هذه الرّسومات بجوّ نفسيّ متوتّر، وتخلق شعورًا بالملاحقة والمطاردة (paranoid schizoid position). لكنّ هذه العلاقة المتوتّرة والمعقّدة تتضمّن أيضًا مشاعر فيها دفء وحبّ. غير أنّ ما يشهده القرّاء هو تكسّر وتشظّي الحالات الشّعورية، وصعوبة احتواء الحبّ والبغض في ذات واحدة ملتئمة.
يتعزّز الافتراض الأخير من خلال التّأمّل في الّتقنيّات الفنّيّة التي اختارها الكاتب في خلق رسوماته. كيف يمكن فهم اللّعبة هذه مع الألوان مقابل تقنيّة الرّسم بالرّصاص؟ يلمّح الرّصاص ربّما إلى نسخة غير محسومة من صورة الغول، أو نسخة رهن التّساؤل. كما أنّه يضفي جوًّا فيه خوف وفزع، ويلمّح إلى وجود ثنائيّات وتكسّر الى نصفين في الأبيض والأسود، بينما يدلّ إبراز غرض ما في الرّسمة من خلال تلوينه على حالة التّشظّي وليس بالضرورة على أهميّة الغرض المُبرز. يدلّ تلوين الغرض أيضًا على الدّفء والحبّ في توقهما إلى الاندماج في ذات واحدة متماسكة (integration). تجتمع الألوان في نهاية القصّة في لحاف يغطّي جَسَدَي الولد وأخته النّائمَين، ممّا يرمز إلى عمليّة اتّحاد واندماج الحالات الشّعوريّة في ذات واحدة وانتهاء تشظّيها وإنكارها (depressive position). حدث هذا الالتحام بعد أن قام الولد بالاعتراف بالغول والاقتراب منه، وبعد أن استقبله في بيته، فلم يعد الغول خارجه، وبعد أن تعارفا وتعلّما من بعضهما البعض. تُظهر لنا الرّسومات حضور الأخت في سيرورة التّعارف هذه، مما يدلّل على أن سيرورة مماثلة تحدث بين الولد وأخته.
"لم أعد أخاف بتاتًا من غيلان تجثم وراء الباب، مختبئة. ولكنّي متأكد من شيء واحد طبعًا، هذه الغيلان تحبّ الشّخير حقًّا" (ص32). في هذه الصّفحة الأخيرة، يحدث اندماج إضافي وأخير. يقترب النّصّ من الرّسمة فتجمعهما حميميّة مختبئة هي الأخرى تحت غطاء ملوّن. في الرّسمة نرى الولد وأخته نائمين تحت الغطاء الملوّن على الأريكة، وفوقهما جملة "هذه الغيلان تحبّ الشّخير أيضًا". تُعاكس هذه الجملة القارئ وتبوح له بمكنون القصّة، فكيف يُمكن ألّا نظن أنّ الغولَين اللّذَيْن يشخران ليسا سوى الأخ والأخت؟
* تمارا ناصر هي كاتبة ومُعالِجة نفسيّة عن طريق القصّة